دور علماء المانديلينغ في نهضة الإسلام بسومطرة الشمالية: الشيخ الحاج محمود فوزي
بادانغ سيديمبوآن – لعب علماء المانديلينغ دورًا محوريًا في نشر الإسلام وتعزيز حضارته في سومطرة الشمالية، وكان من أبرزهم العالم الجليل الحاج محمود فوزي سيديمبوآن، الذي وُلد عام 1896 في مدينة بادانغ سيديمبوآن، في أسرة متدينة من الأب الحاج محمد نوح والأم الحاجة عائشة.
كانت الحاجة عائشة، والدته، من أوائل المثقفات في منطقة باتاك، وقد أسست جماعة نسائية إسلامية خاصة بها، مما جعلها تُعرف بلقب "أمبونغ غورو" أي "الجدة المعلمة"، وهو لقب يدل على مكانتها العلمية والاجتماعية العالية في مجتمعها.
تلقى محمود فوزي تربية دينية راسخة في أحضان والدته، مما أثر على ميوله نحو طلب العلم الشرعي منذ نعومة أظافره. وقد بدأ رحلته العلمية بالانتقال إلى هوتابونغكوت ليتعلم على يد الشيخ عبد الحميد، أحد كبار علماء المنطقة في ذلك الوقت.
مكث هناك ثلاث سنوات ينهل من علوم الدين على يد الشيخ عبد الحميد، الذي شجعه على مواصلة دراسته في مكة المكرمة. استجاب محمود فوزي لتلك النصيحة، وسافر إلى مكة عام 1910، في سن مبكرة، لمواصلة تعليمه الديني.
كانت والدته الداعم الأكبر له خلال فترة دراسته في مكة، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها الأسرة أثناء الحرب العالمية الأولى، إذ أرسلت له مبلغ خمسة وعشرين روبية ليساعده على مصاريف الحياة في الغربة.
بعد أن أتم دراسته في مكة، عاد محمود فوزي إلى أرض الوطن عام 1919، واختار بلدة باتانغ تورو مركزًا لنشاطه التعليمي والدعوي. وهناك بدأ مسيرته في نشر التعليم الإسلامي وتنظيم المجتمع على أسس دينية متينة.
بحلول عام 1926، أصبح له تأثير واسع النطاق، إذ بدأت أفواج من سكان منطقة باتاك توبا، خاصة من بورسيه وباليغه، تتوافد للاستماع إلى محاضراته، بل إن العديد منهم اختاروا الإقامة في باتانغ تورو للانخراط في مؤسساته التعليمية.
كان محمود فوزي أيضًا من الدعاة البارزين الذين ساهموا في إدخال الكثير من سكان توبا إلى الإسلام، حيث كانوا يأتون إلى بيته ويُعلنون رغبتهم في اعتناق هذا الدين، وكان يستقبلهم بصدر رحب ويعلمهم تعاليم الإسلام.
وفر لهم أماكن للإقامة المؤقتة في مساكن خاصة، حتى يتمكنوا من التعلّم والاندماج في الحياة الإسلامية قبل عودتهم إلى قراهم الأصلية. وقد أصبح عدد كبير من هؤلاء الموالف، في عهد الاستقلال، موظفين في وزارة الشؤون الدينية في جمهورية إندونيسيا الوليدة.
لم يقتصر دور محمود فوزي على التعليم والدعوة، بل كان أيضًا كاتبًا مبدعًا، ألّف العديد من الكتب، إلا أن أغلبها فُقد بمرور الزمن. ومن أشهر مؤلفاته الباقية كتاب بعنوان نحو مكة - المدينة - بيت المقدس.
كما شغل مناصب دينية بارزة، كان آخرها منصب رئيس الشورى في نهضة العلماء (رئيس شوري) في باتانغ تورو، وهو ما يدل على الثقة الكبيرة التي وضعها فيه المجتمع الديني المحلي.
لم يدخر جهدًا في سبيل الدعوة، بل وهب جزءًا كبيرًا من أمواله الخاصة لتأسيس المؤسسات التعليمية وبناء المساجد، مما جعل إرثه لا يقتصر على العلم فقط، بل يشمل البنية التحتية لنشر الإسلام كذلك.
كان لعلماء المانديلينغ مثل محمود فوزي أثر كبير في تحويل مناطق مثل بادانغ سيديمبوآن وباتانغ تورو إلى مراكز إشعاع علمي وروحي. وقد ساعدوا في تشكيل هوية إسلامية متجذرة ومتماشية مع قيم المجتمع المحلي.
أسس محمود فوزي نموذجًا لعالم يجمع بين العلم والعمل، بين التعليم والإصلاح، وكان تأثيره ممتدًا إلى خارج منطقته، حيث تخرج من مؤسساته العديد من الطلبة الذين واصلوا مسيرته في التعليم والدعوة.
ورغم مرور الزمن، لا تزال ذكراه خالدة في قلوب أبناء سومطرة الشمالية، حيث يُعد رمزًا للعلم والدين والقيادة المجتمعية التي لا تنضب.
إن سيرة هذا العالم الكبير تمثل فصلًا مهمًا في تاريخ الإسلام في إندونيسيا، وتُظهر كيف ساهمت الشخصيات الدينية في النهضة الدينية والاجتماعية لشعوبهم.
ولا تزال المؤسسات التي أسسها، والتقاليد التعليمية التي أرساها، قائمة حتى يومنا هذا، شاهدة على إخلاصه وعطائه.
لقد جمع بين الأصالة والمعاصرة، واستطاع أن يرسّخ الإسلام في قلوب الناس دون أن يتصادم مع ثقافتهم، بل جعل من الدين منبعًا للتطور والنهضة.
ومن خلال مسيرته، يتضح أن علماء المانديلينغ لم يكونوا فقط حفظة علم، بل كانوا بناة حضارة وروّاد نهضة في سومطرة الشمالية.
0 تعليق